فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)}.
{فَمَن رَّبُّكُمَا} على التثنية، ثم قال: {يَا مُوسَى} فأفرده بالخطاب بعدما قال: {فَمَن رَّبُّكُمَا} فيحتمل أن ذلك لمُشَاكَلَة رؤوس الآي، ويحتمل أن موسى كان مُقَدَّمًا على هارون فَخَصَّه بالنداء.
وإنما أجاب موسى عن هذا السؤال بالاستدلال على فِعْلِه- سبحانه فقال: {رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ} ليُعْلَمَ أنَّ الدليلَ على إثباته- سبحانه- ما دلَّتْ عليه أفعالُه.
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)}.
لا يمكنني أن أُخْبِرَكُم إلا بما أخبرني به ربي فَمَا عَرَّفَني عَرَّفْتُ، وما ستره عليَّ وَقَفْتُ.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}.
جَعَلَ الأرضَ مستقرًا لأبدانهم، وجعل أبدانَهم مستقرًا لعبادته، وقلوبهم مستقرًا لمعرفته، وأرواحَهم مستقرًا لمحبته، وأسرارهم مستقرًا لمشاهدته.
{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)}.
هيَّأَ لهم أسبابَ المعيشة، وكما نَظَرَ إليهم وَرَزَقَهُم رَزَقَ دوابَّهم التي ينتفعون بها، وأَمَرَهُم أنْ يَتَقَووْا بما تَصِلُ إليه أيديهم، وأنْ ينتفِعُوا- ما أمكنهم- بأَنْعَامِهمِ لِيَكْمُلَ لديهم إنْعَامُهم.
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}.
إذ خَلَقْنا آدمَ من التراب، وإذ أخْرَجْناكم من صُلبه... فقد خَلْقْنَاكم من الترابِ أيضًا. والأجسادُ قوالِبُ والأرواحُ ودائعُ، والقوالب نسبتها التُّربة، والودائع صفتها القُرْبة، فالقوالب يزِّينها بأفضاله، والودائع يحييها بكشف جلاله ولطف جماله. وللقوالب اليوم اعتكافٌ على بِساط عبادته، وللودائع اتصافٌ بدوام معرفته. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}.
قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا} يقتضي أن المخاطب اثنان وقوله: {يَا مُوسَى} يقتضي أن المخاطب واحد والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن فرعون أراد خطاب موسى وحده والمخاطب أن اشترك معه في الكلام غير مخاطب غلب المخاطب على غيره كما لو خاطبت رجلا اشترك معه آخر في شأن والثاني غائب فإنك تقول للحاضر منهما ما بالكما فعلتما كذا والمخاطب واحد وهذا ظاهر.
الوجه الثاني: أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لكونه الأصل في الرسالة.
الثالث: أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لمطابقة رؤوس الآي مع ظهور المراد ونظير الآية قوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} ويجاب عنه بأن المرأة تبع لزوجها وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء، وبأن الخطاب لآدم وحده والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم بدليل قوله: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} فهي ذكرت فيما خوطب به آدم؛ والمخاطب هو وحده؛ ولذا قال: {فتشقى} لأن الخطاب لم يتوجه إليها هى، والعلم عند الله تعالى.
عند الله تعالى. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}.
أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} قال: من كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس في قوله: {الذي أعطى كل شيء خلقه} قال: خلق لكل شيء روحه، ثم {هدى} قال: هداه لمنكحه، ومطعمه، ومشربه، ومسكنه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {أعطى كل شيء خلقه} يقول: مثله، أعطى الإنسان انسانة، والحمار حمارة، والشاة شاته: {ثم هدى} إلى الجماع.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر، عن الحسن في قوله: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} قال: أعطى كل شيء ما يصلحه ثم هداه له.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد- رضي الله عنه- في قوله: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} قال: سوى خلق كل دابة ثم هداها لما يصلحها وعلمها إياه، لم يجعل خلق الناس كخلق البهائم، ولا خلق البهائم كخلق الناس، ولكن {خلق كل شيء فقدره تقديرًا} [الفرقان: 2].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله: {أعطى كل شيء خلقه} قال: أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل الإنسان في خلق الدابة، ولا الدابة في خلق الكلب، ولا الكلب في خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيأ كل شيء على ذلك، ليس منها شيء يملك شيئًا في فعاله، في الخلق والرزق والنكاح {ثم هدى} قال: هدى كل شيء إلى رزقه وإلى زوجته.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {أعطى كل شيء خلقه} قال: أعطى كل شيء صورته {ثم هدى} قال: لمعيشته.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عكرمة رضي الله عنه في قوله: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} قال: ألم تر إلى البعير كيف يقوم لصاحبه ينتظره! حتى يجيء هذا منه!.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر، عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله: {ثم هدى} قال: كيف يأتي الذكر الأنثى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن سابط قال: ما أبهمت البهائم، فلم تبهم عن أربع: تعلم أن الله ربها، ويأتي الذكر الأنثى، وتهتدي لمعايشها، وتخاف الموت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {قال فما بال القرون الأولى} يقول: فما حال القرون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لا يضل ربي} قال: لا يخطئ.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {لا يضل ربي ولا ينسى} قال: هما شيء واحد.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {لا يضل ربي ولا ينسى} قال: {لا يضل ربي} الكتاب {ولا ينسى} ما فيه.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي المليح قال: الناس يعيبون علينا الكتاب، وقال الله تعالى: {علمها عند ربي في كتاب}.
وأخرج ابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي هلال قال: كنا عند قتادة فذكروا الكتاب وسألوه عن ذلك؟ فقال: وما بأس بذلك. أليس الله الخبير يخبر؟ قال: {فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب}.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}.
أخرج ابن المنذر، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {فأخرجنا به أزواجًا} يقول: أصنافًا فكل صنف من نبات الأرض أزواج. النخل زوج صنف، والأعناب زوج صنف، وكل شيء تنبته الأرض أزواج.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {من نبات شتى} قال: مختلف وفي قوله: {لأولي النهى} قال: لأولي التقى.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لأولي النهى} قال: لذوي الحجا والعقول.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {لأولي النهى} قال: لأولي الورع.
وأخرج ابن المنذر، عن سفيان رضي الله عنه في قوله: {لأولي النهى} قال: الذين ينتهون عما نهوا عنه.
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}.
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر، عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه، فيذره على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله منها خلقناكم وفيها نعيدكم.
وأخرج أحمد والحاكم، عن أبي أمامة قال: لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله».
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {تارة أخرى} قال مرة أخرى. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)}.
قوله: {يا موسى}: نادى موسى وحدَه بعد مخاطبته لهما معًا: إمَّا لأنَّ موسى هو الأصلُ في الرسالة، وهارونُ تَبَعٌ ورِدْءٌ ووزيرٌ، وإمَّا لأنَّ فرعونَ كان لخُبْثِه يعلمُ الرُّتَّة التي في لسان موسى، ويعلم فصاحةَ أخيه بدليلِ قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص: 34] وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] فأراد استنطاقَه دون أخيه، وإمَّا لأنه حَذَفَ المعطوفَ للعلمِ به أي: يا موسى وهارون. قاله أبو البقاء، وبدأ به، ولا حاجةَ إليه، وقد يُقال: حَسَّنَ الحذفَ كونَ موسى فاصلةً، لا يُقال: كان يُغني في ذلك أَنْ تُقَدِّمَ هارون وتؤخِّرَ موسى فيقال: يا هارونُ وموسى فتحصُلُ مجانسةٌ الفواصلِ مِنْ غيرِ حَذْفٍ لأنَّ البَدْءَ بموسى أهمُّ فهو المبدوءُ به.
قوله: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ}: في هذه الآية وجهان: أحدهما: أن يكونَ {كلَّ شيءٍ} مفعولًا أولَ، و{خَلْقَه} مفعولًا ثانيًا على معنى: أعطى كلَّ شيءٍ شكلَه وصورَته، الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ به، كما أعطى العينَ الهيئةَ التي تطابق الإِبصارَ، والأذنَ الشكلَ الذي يطابقُ الاستماعَ ويوافقه، وكذلك اليدُ والرِّجلُ واللسانُ، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصورةِ حيث جعل الحصانَ والحِجْر زوجين، والناقةَ والبعيرَ، والرجلَ والمرأةَ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه، ولا ما هو مخالفٌ لخَلْقِه. وقيل: المعنى: أعطى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خَلْقَه أي: هو الذي ابتدعه. وقيل: المعنى: أعطى كلَّ شيءٍ ممَّا خَلَق خِلْقَتَه وصورتَه على ما يناسبه من الإِتقانِ. لم يجعل خَلْقَ الإِنسانِ في خَلْقِ البهائم، ولا بالعكس، بل خَلَق كلَّ شيءٍ فَقدَّره تقديرًا.
والثاني: أن يكونَ {كلَّ شيءٍ} مفعولًا ثانيًا، و{خَلْقَه} هو الأول، فَقَدَّم الثاني عليه، والمعنى: أعطى خليقته كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ويَرْتفقون به.
وقرأ عبدُ الله والحسنُ والأعمشُ وأبو نهيكٍ وابنُ أبي إسحاق ونصير عن الكسائي وناسٌ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم {خَلَقَه} بفتح اللام فِعْلًا ماضيًا. وهذه الجملةُ في هذه القراءةِ تحتمل أَنْ تكونَ منصوبةً المحلِّ صفةً ل {كل} أو في محلِّ جَرِّ صفةً ل {شيء}، وهذا معنى قولِ الزمخشري: صفةٌ للمضاف يعني {كل} أو للمضافِ إليه يعني {شيءٍ}. والمفعولُ الثاني على هذه القراءةِ محذوفٌ، فيُحتملُ أَنْ يكونَ حَذْفُه حَذْفَ اختصارٍ للدلالةِ عليه أي: أعطى كلَّ شيءٍ خَلَقَه ما يحتاج إليه ويُصْلحه أو كمالَه، ويحتمل أن يكونَ حذفُه حَذْفَ اقتصارٍ، والمعنى: أن كلَّ شيءٍ خَلَقه الله لم يُخْلِه من إنعامِه وعطائِه.
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)}.
والبالُ: الفِكْرُ. يقال: خَطَر ببالِه كذا، ولا يثنى ولا يُجْمَعُ، وشَذَّ جمعُه على بالات. ويقال للحال المُكْتَرَثِ بها، ولذلك يُقال: ما بالَيْتُ بالةً، والأصل...... فحذف لامه تخفيفًا.
قوله: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي}.
في خبر هذا المبتدأ أوجهٌ، أحدها: أنه {عند ربي} وعلى هذا فقوله: {في كتاب} متعلقٌ بما تعلق به الظرفُ من الاستقرار، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضمير المستتر في الظرف، أو خبرٌ ثان.
الثاني: أنَّ الخبرَ قوله: {في كتاب} فعلى هذا قوله: {عند ربي} معمولٌ للاستقرار الذي تعلَّق به {في كتاب} كا تقدَّم في عكسه، أو يكون حالًا من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبرًا. وفيه خلاف أعني تقديمَ الحالِ على عاملها المعنوي. والأخفش يجيزه ويستدلُّ بقراءة {والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وقوله:
رَهْطُ ابنِ كوزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهمْ ** فيهم ورَهْطُ رَبيعةَ بنِ حُذارِ

وقال بعَضُ النحويين: إنه إذا كان العاملُ معنويًا، والحالُ ظرفٌ أو عديلُه، حَسُن التقديمُ عند الأخفشِ وغيرِه، وهذا منه. أو يكونُ ظرفًا للعلم نفسه، أو يكونُ حالًا من المضاف إليه وهو الضمير في {عليها}. ولا يجوزُ أن يكونَ {في كتاب} متعلِّقًا ب {عِلْمها} على قولِنا إنَّ {عند ربي} الخبر كما جاز تعلُّقُ {عند} به لئلا يلزمَ الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، وقد تقدم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمامِ صلته.
الثالث: أن يكونَ الظرفُ وحرفُ الجرِّ معًا خبرًا واحدًا في المعنى، فيكونَ بمنزلةِ هذا حُلْوٌ حامِض قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ إذ كلُّ منها يستقلُّ بفائدةِ الخبريةِ، بخلاف هذا حلو حامِضٌ.
والضمير في {عِلْمُها} فيه وجهان، أظهرُهما: عَوْدُه على القرون. والثاني: عَوْدُه على القيامةِ للدلالةِ ذِكْرِ القرون على ذلك؛ لأنه سأله عن بَعْثِ الأممِ، والبعثُ يدلُّ على القيامة.
قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل {كتاب}، والعائدُ محذوفٌ، تقديرُه: في كتاب لا يَضِلُّه ربي، أو لا يَضِلُّ حِفْظَه ربي، ف {ربي} فاعل {يَضِلُّ} على هذا التقدير، وقيل: تقديرُه: الكتابَ ربي. فيكون في {يَضِلُّ} ضميرٌ يعود على {كتاب}، وربي منصوبٌ على التعظيمِ. وكان الأصلُ: عن ربي، فحُذِفَ الحرفُ اتِّساعًا، يُقال: ضَلَلْتُ كذا وضَلَلْتُه بفتح اللام وكسرها، لغتان مشهورتان وشُهراهما الفتحُ. الثاني: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ساقها تبارك وتعالى لمجرد الإِخبارِ بذلك حكايةً عن موسى.
وقرأ الحسنُ وقتادة والجحدريُّ وعيسى الثقفي وابن محيصن وحَمَّاد بن سلمة {لا يُضِلُّ} بضم الياء أي: لا يُضِلُّ ربي الكتابَ أي: لا يُضَيِّعه يقال: أَضْلَلْتُ الشيءَ أي: أضعتُه.
ف {ربي} فاعلٌ على هذا التقدير. وقيل: تقديرُه: لا يُضِلُّ أحدٌ ربي عن علمه أي: عن علم الكتاب، فيكون الربُّ منصوبًا على التعظيم.
وفرَّق بعضُهم بين ضَلَلْتُ وأَضْلَلْت فقال: ضَلَلْتُ منزلي، بغيرِ ألفٍ، وأَضْلَلْت بعيري ونحوَه من الحيوان بالألفِ. نقل ذلك الرمانيُّ عن العرب، وقال الفراء: يقال: ضَلَلْتُ الشيءَ إذا أَخطأْتَ في مكانه وضَلِلْتُ لغتان، فلم تهتدِ له، كقولك: ضَلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ولا يُقال: أَضْلَلْتُه إلاَّ إذا ضاع منك كالدَّابة انفلَتَتْ، وشبهِها.
قوله: {وَلاَ ينسى} في فاعل {ينسى} قولان: أحدهما: أنه عائدٌ على {ربي} أي: ولا ينسى ربي ما أَثْبَتَه في الكتاب. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الكتاب على سبيل المجاز، كما أُسند إليه الإِحصاءُ مجازًا في قوله: {إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] لمَّا كان مَحَلًا للإِحصاء.
قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ}:
في هذا الموصولِ وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو منصوبٌ بإضمار أمدح، وهو على هذين التقديرين مِنْ كلامِ الله تعالى لا مِنْ كلامِ موسى، وإنما احْتجنا إلى ذلك لأنَّ قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ}، وقوله: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} وقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} إلى قوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} لا يَتَأتَّى أن يكونَ مِنْ كلام موسى؛ فلذلك جَعَلْناه من كلامِ الباري تعالى. ويكون فيه التفاتٌ من ضمير الغَيْبةِ إلى ضمير المتكلِّم المعظمِ نفسَه، فإن قلتَ: أجعلهُ مِنْ كلامِ موسى، يعني أنه وَصَفَ ربَّه تعالى بذلك ثم التفتَ إلى الإِخبار عن الله بلفظِ المتكلِّمِ. قيل: إنما جَعَلناه التفاتًا في الوجهِ الأول؛ لأنَّ المتكلمَ واحدٌ بخلاف هذا، فإنه لا يتأتى فيه الالتفاتُ المذكورُ وأخواتُه من كلام الله.
والثاني: أنَّ {الذي} صفةٌ ل {ربي} فيكونُ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من إعراب {ربي}. وفيه ما تقدَّم من الإِشكال في نظمِ الكلام مِنْ قوله: {فأَخْرَجْنا} وأخواتِه من عدم جوازٍ الالتفاتِ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشري والحوفي. وقال ابن عطية: إن كلامَ موسى تَمَّ عند قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} وإنَّ قوله: {فأخرَجْنا} إلى آخره مِنْ كلام الله تعالى وفيه بُعْدٌ.
وقرأ الكوفيون {مَهْدًا} بفتح الميم وسكونِ الهاء من غير ألفٍ. والباقون {مِهادًا} بكسرِ الميم وفتح الهاء وألفٍ بعدها. وفيه وجهان: أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد يقال: مَهَدْتُه مَهْدًا ومِهادًا، والثاني: أنهما مختلفان، فالمِهادُ هو الاسمُ والمَهْد هو الفعل، أو أنَّ مِهادًا جمعُ مَهْد نحو: فَرْخ وفِراخ وكَعْب وكِعاب. ووَصْفُ الأرضِ بالمَهْدِ: إمَّا مبالغةً، وإمَّا على حذف مضاف أي: ذات مَهْدٍ.
قوله: {شتى}: {شَتَّى} فَعْلَى. وألفُه للتأنيث، وهو جمعٌ لشَتِيْت نحو: مَرْضى في جمع مريض، وجرحى في جمع جريح، وقتلى في جمع قتيل. يقال: شَتَّ الأمر يَشِتُّ شَتًَّا وشَتاتًا فهو شَتٌّ أي تفرَّق. وشَتَّان اسمُ فعلٍ ماضٍ بمعنى افترق، ولذلك لا يُكتفى بواحد.
وفي {شَتَّى} أوجهٌ، أحدُها: أنَّها منصوبةٌ نعتًا ل {أَزْواجًا} أي: أزواجًا متفرقةً بمعنى: مختلفة الألوانِ والطُّعوم. والثاني: أنها منصوبةٌ على الحال مِنْ {أزواجًا} وجاز مجيءُ الحالِ من النكرة لتخصُّصِها بالصفةِ وهي {مِنْ نبات}. الثالث: أَنْ تنتصِبَ على الحال أيضًا مِنْ فاعل الجارِّ؛ لأنه لَمَّا وقع وصفًا رفع ضميرًا فاعِلًا. الرابع: أنَّه في محلِّ جر نعتًا ل {نبات}، قال الزمخشري: يجوز أن يكونَ صفةً لنبات، ونبات مصدرٌ سُمِّيَ به النابت كما سُمِّي بالنَّبْت، فاستوى فيه الواحدُ والجمع، يعني أنها شَتَّى مخلتفةُ النفعِ والطعمِ واللونِ والرائحةِ والشكلِ، بعضُها يَصْلُح للناس، وبعضُها للبهائم ووافقه أبو البقاء أيضًا. ولكنَ الظاهرَ الأولُ.
قوله: {كُلُواْ}: منصوبٌ بقولٍ محذوف، وذلك القولُ منصوبٌ على الحال مِنْ فاعل {أَخْرَجْنا} تقديره: فأخرَجْنا كذا قائلين: كُلوا. وتَرَكَ مفعولَ الأكل على حَدِّ تَرْكِه في قولِه تعالى: {كُلُواْ واشربوا} [البقرة: 60].
{وارْعَوْا} رعى يكون لازمًا ومتعدِّيًا يقال: رعى دابَّته رَعْيًا فهو راعِيها. ورَعَتِ الدابَّةُ ترعى رَعْيًا فيه راعيةٌ، وجاء في الآيةِ متعدِّيًا.
والنهى فيه قولان: أحدهما: أنه جَمْعُ نُهْيَة كغُرَف جمع غُرْفَة. والثاني: أنها اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ كالهدى والسرى. قاله أبو عليّ. وكنت قد قدَّمْتُ أولَ هذا الموضوع أنهم قالوا: لم يأتِ مصدرٌ على فُعَل من المعتل اللام إلاَّ سرى وهدى وبكى، وأنَّ بعضهم زادَ لقى وأنشدْتُ عليه بيتًا ثَمَّة، وهذا لفظٌ آخرُ فيكون خامسًا. والنهى: العَقْلُ. قالوا: سُمِّي بذلك لأنه يَنْهى صاحبَه عن ارتكابِ القبائح. اهـ.